[size=25]
قضاء الليل في شهر الصوم
الخطبة الأولى:
الحمد لله وصلى الله وسلم على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فإن شرف المؤمن قيامه بالليل، وليس ثَم شرف يدانيه ولا فضل يوازيه بعد الفريضة، إذ أفضل الصلاة بعد الفريضة قيام الليل.
عباد الله: قد أظلتكم ليالٍ مباركة، الأجر فيها
مضاعف، والثواب فيها لا بديل عنه، والكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت،
والفطن من سهر في طاعة الله، وقام بين يديه، يرجو رحمته ويخاف عذابه،
أولئك أقوام يغبطهم الصالحون، ويأنس بهم المتقون، وتستبشر ببقائهم الأيام،
وتفرح بحياتهم الدنيا، فلعمري هم:
أَحِبَةٌ عَمَرُوا بِالحَقِّ سَاحَتَهُمْ
هُمُ أَضَاءَ بِهِمْ دَرْبُ العُلا فَرَأَوا
الَّليْلُ يَعْرِفُهُمْ رُهْبَانَ سَاحَتِهِ
فيْ وَاحَةِ لِكِتَابِ اللهِ مَوْرِدُهُمْ
أَوَّاهُ لَوْ جِئْتَهُمْ وَالَّليْلُ يَجْمَعُهُمْ
وَيَمْلَؤُونَ وِعَاءَ الَّليْلِ مِنْ رَهَبٍ
وَشَيَّدُوا بِعُرَى التَّقْوَى مَعَانِيهِ
بِأَعْينِ الحقِّ مِنْهُمْ كُلَّ مَا فِيهِ
تُرْقِي مَآقِيهمُ دَمْعاً مآقِيهِ
الزَّادُ أحكامُهُ، السُّقْيَا مَعَانِيهِ
عَلَى بِسَاطِ التُّقَى رَقَّتْ حَواشِيهِ
وَيُفْرغُونَ الشَّكَايَا في دَيَاجِيهِ1
إن اللّه -سبحانه وتعالى- قد قرن قُوّام الليل برسوله -صلى الله عليه
وسلم- وجمعهم معه في شكر المعاملة وحسن الجزاء فقال -جل وعلا-: (إنَّ
رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ
وَنِصْفُهُ وَثُلُثَهُ وَطَاِئفَةٌ مِنَ الَّذينَ مَعَكَ) (المزمل:20) وقد
أخبر اللّه سبحانه أن قراءة الليل أشدّ وطئاً للقلب، وأقوم قيلاً للحفظ
والذكر،أي: يواطئ القلبُ اللسانَ بالفهم والحفظ.
وقد سمى اللّه تعالى أهل الليل علماء وجعلهم أهل الخوف والرجاء وأخفى لهم
قرة العين من الجزاء فقال: (أَمَّنْ هوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ ساجِداً
وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِهِ)(الزمر:9) ثم
قال: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذينَ يَعْلَمُونَ وَالذَّينَ لاَ
يْعْلَمونَ)(الزمر:9) والمعنى: أمّن هو هكذا عالم قانت مطيع لا يستوي مع من
هو غافل نائم ليله أجمع فهو غير عالم بما يحذر وبما يرجو من ربه -عز وجل-.
وقال -عز وجل- في وصفهم في الدنيا ووصف ما أعد لهم في الآخرة {وَالَّذِينَ
يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا}،{تَتَجَافى جُنُوبُهُمْ عَنِ
الْمَضَاجعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً}(السجدة:16) أي تنبو
عن الفراش فِلا تطمئن لما فيها من خوف الوعيد ورجاء الموعود، ثم قال: {فَلا
تَعْلَمْ نَفْسٌُ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةٍ أَعْيُنٍ جَزَاءً
بِمَا كَانُوا يَعْمَلونَ}(السجدة:17) قيل: كان عملهم قيام الليل، وقيل: بل
كانوا أهل خوف ورجاء، وأخفي لهم من الجزاء نفيس الذخائر، ولا تقر أعين
هؤلاء المحبين إلا بوجهه كما لم يعملوا إلا لوجه اللّه تعالى2.
قال ابن جرير الطبري رحمه الله: تتنحَّى جنوب هؤلاء الذين يؤمنون بآيات
الله، الذين وصفت صفتهم، وترتفع من مضاجعهم التي يضطجعون لمنامهم، ولا
ينامون (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا) في عفوه عنهم، وتفضُّله
عليهم برحمته ومغفرته (ومِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) في سبيل الله،
ويؤدّون منه حقوق الله التي أوجبها عليهم فيه3.
أيها المسلمون: ما أطيب شهر رمضان، نهاره ولياليه، ساعاته ولحظاته، لو
تمثل جسماً لكان بدراً منيرًا، ولو تمثل بشراً كان ملكاً من الملوك محفوفاً
من حوله باليواقيت واللآليء والجمان، ولو أنه يحبك في كلام، أو يسبك في
نظم لحوى السجع والإنشاد، ومن الشعر ما جاد.
فلله درُّ أقوام هجروا فيه لذيذ المنام، وتنصلوا لما نصبوا له الأقدام،
وانتصبوا للنصب في الظلام، يطلبون نصيباً من الإنعام، إِذا جنّ الليل
سهروا، وإذا جاء النهار اعتبروا، وإذا نظروا في عيوبهم استغفروا، وإذا
تفكروا في ذنوبهم بكوا وانكسروا، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ -رضي الله عنه- عَنْ
رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: عَلَيْكُمْ
بِقِيَامِ اللَّيْلِ؛ فَإِنَّهُ دَأَبُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ، وَهُوَ
قُرْبَةٌ إِلَى رَبِّكُمْ، وَمَكْفَرَةٌ لِلسَّيِّئَاتِ، وَمَنْهَاةٌ
لِلْإِثْمِ)4.5
معشر المسلمين: هاهو رمضان مقبلاً، فشمروا فيه صياماً وقياماً، واجعلوا منه لأنفسكم منطلقاً للنجاح.
أقيموا على باب الكريم أقيموا
ولا تنفروا عن بابه فتهيموا
أقبلوا بهمة تناطح عنان السماء، وبنفوس تطير في
الفضاء، نفوس شامخة لا ترى عزها في غير طاعة ربها، ولا تعلم شرفاً إلا
بقيامها بين يديه، أقبلوا على الله بقلوبكم وأرواحكم وجوارحكم فإنه يعلم
السر وأخفى.
واعلموا عباد الله: أن الفرصة غالية، وأن الأيام نفيسة، والليالي ثمينة،
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله
عليه وسلم- قَالَ: (مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ
لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)6، حقاً والله إنه لأمر غالٍ لا يعتاض
عنه بثمن.
أيها المسلمون: انعموا بالسعادة الرمضانية، واغتنموا الفرصة الذهبية،
فأنتم في رمضان في خير ضيوف الرحمن، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَفْشُوا
السَّلَامَ وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ
نِيَامٌ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ)7، واعلموا أن الأمر يسير على من
يسره الله عليه، ولكن يفتقر إلى عزيمة من عزمات الصالحين، وبعدها تحصل
اللذة والراحة والسعادة، وتكون قرة عين المؤمن في الصلاة، وفي قيام الليل،
كما قال بعض الزهاد: "عالجت قيام الليل سنة وتنعمت به عشرين سنة" قال ابن
القيم رحمه الله: ومن كانت قرة عينه في الصلاة لم يجد لها مشقة وكلفة8.
فما أنعم الصائمين في رمضان، {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ
سُجَّدًا وَقِيَامًا} يقضون لياليهم بالتهجد والقيام والصلاة، تراهم ساجدين
لله راكعين، ما بين تالٍ وباكٍ، وخاشع ومتذلل لرب العزة ذي الجلال، هذه هي
العزة والشرف والسؤدد، نسأل الله أن يجعلنا من عباده القائمين الخاشعين
آمين.
أنت يا أخي المسلم: يا من صمت ونمت، ربما كنت من المتصدقين، وربما كنت من
الخاشعين، وربما صار من سيماك الخير والصلاح، وربما قيل فيك: نعم الرجل
فلان، يا عبد الله: "نِعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللَّهِ لَوْ كَانَ يُصَلِّي
مِنْ اللَّيْلِ"9، هلا كنت من المتهجدين القائمين الذين {يَبِيتُونَ
لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} والذين أحيوا ليلهم مع الله كما كَانَ
النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ
وَأَحْيَا لَيْلَهُ وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ10.
وكفى به قدوة وأسوة عليه الصلاة والسلام، قوموا إلى صلاة التراويح مع
الإمام فإِنَّه "مَنْ قَامَ مَعَ الْإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ كُتِبَ لَهُ
قِيَامُ لَيْلَةٍ"11، وانهضوا لقيام الليل، واستفيقوا من سبات الغفلة،
وتهجدوا في حنادس الظلام، "وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ
نِيَامٌ"12{وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ}(238) سورة البقرة.
وكونوا من الذين إذا جن الظلام بهم شدوا مآزرهم، وهجروا مضاجعهم، لسان حال أحدهم:
كم دمعةٍ سُفحت في الليل ساربةً
وكم تنفس صبح ما تسائمه
وما نداه سوى دمع أكفكفه
خفق القلوب داء أنت تسمعه
وكم تردد في جنبي تعليلُ
إلا ابتهالٌ إلى الرحمن متبولُ
يا رب علَّ دعائي منك مقبولُ
وللجوارح تسبيح وتهليلُ13
أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ولي الصالحين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين،
وصلى الله وسلم على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
عباد الله: يجب علينا أن لا نفرط في القيام في رمضان المبارك، ولنبذل ما
بوسعنا من الاستعداد له، وعمل ما يمكن أن يساعد ويعين عليه، وإليكم بعض ما
يعين على قيام الليل:
أولاً: التقلل من الطعام والشراب، فمن كثر طعامه كثر شرابه، ومن كثر شرابه كثر نومه.
ثانياً: عدم الإكثار من التعب نهاراً، فإذا تعبت الأعضاء جنحت إلى النوم.
ثالثاً: الاستعانة بالقيلولة نهاراً، وهذه سنة من سنن النبي صلى الله عيه
وسلم فعن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال (قِيلُوا فَإِنَّ الشَّيْطَانَ
لا يَقِيْلُ)14.
رابعاً: ترك المعاصي والذنوب، وهذا أمر هام جداً، فقد كان السلف يتواصون
بهذا الأمر لهذا الشأن فقد قال رجل للحسن البصري: يا أبا سعيد إني أبيت
معافىً، وأحب قيام الليل، وأعد طهوري، فما بالي لا أقوم؟ فقال: ذنوبك
قيدتك. وقال الثوري: حرمت قيام الليل خمسة أشهر بذنب أذنبته15.
خامساً: إطابة المطعم، فهو سبب عظيم لقيام
الليل، وقد قال إبراهيم بن أدهم: أطب مطعمك، ولا حرج عليك أن لا تقوم الليل
ولا تصوم النهار16.
سادساً: ترك السهر بعد العشاء، فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- ينام
بعد العشاء ليقوم آخر الليل، وكما جاء عَنْ أَبِي بَرْزَةَ -رضي الله عنه-
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- (كَانَ يَكْرَهُ النَّوْمَ
قَبْلَ الْعِشَاءِ وَالْحَدِيثَ بَعْدَهَا)17.
سابعاً: عدم المبالغة في حشو الفراش، فكلما كان الفراش ناعماً رطباً ليناً كلما طاب النوم وطال.
ثامناً: الالتزام بآداب النوم والدعاء قبله، والنوم على طهارة، وقراءة الأذكار، والنوم على الجانب الأيمن.
عباد الله: هذا ما يتعلق بليالي الصالحين، ولشديد الأسف، وعظيم الحرقة
يوجد كثير من المسلمين اليوم يقضون لياليهم في السهر واللهو واللعب، وربما
انتشر عدد غير قليل من الشباب والشابات في الأسواق والحدائق والمنتزهات،
وقضوا لياليهم في سبات الغفلات، وصحوة الكسالى، لا يرحمون أنفسهم، ولا
يعلمون صالح أمرهم، ورشاد سبيلهم، وهم مع ذلك فرحون مغتبطون بلهوهم، يرون
أنهم على سعادة، ويحسبون أنهم على شيء، وهم في تهافتهم تائهون.
أيها المسلمون: أيعقِل عاقلٌ أن يُقضى الليل دونما مصلحة شرعية تعود على
المسلم بالخير والحسنات، سيما في هذا الشهر المبارك؟ أيعقل أن تضيع أعمار
كثير من الناس في سهرات فارهة، والصالحون في بيوت الله عاكفون، والأجور
تقسم في المسجد، وميراث النبوة يوزع بين مبتغيه، والمحاريب تصدح بالأذان
ونداء الحق.
ليعلم الجميع أنه حرام علينا أن نلقى رمضان بالكسل والخمول، فنصوم صيام
المكرهين، ونقوم قيام المجبرين، وكأننا عقدنا عقد مجاملة لله مدة شهر
رمضان، للأسف هذا شأن بعضٍ من الناس، حتى إن رمضان عليهم ثقيل ثقل
الجبال!!.
ليعلم أبناء الأمة شباباً وشابات أنهم اليوم يصنعون تاريخ الغد، وإن أمة
يضيع رمضانها ولياليه في الأسواق والملاهي لا تستحق إلا تاريخاً أسودَ
حالكاً كسواد الليالي التي ضيعوها.
ليعلم الصائمون لله رب العالمين أنهم موقوفون وبين يدي الله محاسبون، وعن
أعمالهم مجزيون وسيعلم الذين ظلموا أي من قلب ينقلبون، فكل سيلقى ما قدم،
والكيس الفطن من قدم لما بعد موته، وصام لله، وأتعب نفسه لله، وقام ليله
لله، وكانت حياته ومماته لله رب العالمين لا شريك له.
اللهم ارزقنا العمل الصالح، وارزقنا إيماناً لا يرتد، ونعيماً لا ينفد،
وقرة عين لا تنقطع، ولذة النظر إلى وجهك الكريم، وصحبة نبيك -صلى الله عليه
وسلم- في جنات النعيم. آمين[/size]