--------------------------------------------------------------------------------
قال الله تعالى: ( بَديعُ السَّماوَاتِ وَالْأَرْضِ إذَا قَضَى أمْراً فَإِنَّمَا يَقُـولُ لَهُ كُـنْ فَـيَكُونُ( . سورة البقرة الآية 117
الصلة بين الإبداع و الحرية صلة بين المقدمة و النتيجة، بين الغذاء والكائن الحي، بين الأم ووليدها .. فإذا كان الإبداع عطاء جديدا نافعا في ميدان إنساني ما، فهذا العطاء و ذلك الثراء للحياة الإنسانية فضاؤه الحرية، الإبداع الحر لا ينبع إلا من الذات الحرة، من النفس التواقة، المغرمة بالكشف عن المجهول و تجاوز المعلوم.
الإبداع الحر ينبع، من الرغبة في الإضافة الكائنة داخل الإنسان الفرد ذي الموهبة أولا و في الجماعة التي تحررت من القيود التي تربط بينها أواصر عديدة و ترى الحياة صيرورة متجددة في جميع المجالات تطويرا لما هو كائن و إيجاد لما لم يكن، و غرسا دائما لما يجب أن يكون.
و طالما أن الإبداع الحر في عمقه توق دائم للأفضل و تجاوز لما هو كائن و تحرر من كل القيود كيفما كان نوعها و مهما كان مصدرها، فإنه يتعارض مع الخضوع لأي قيد ، أنه يهفو دوما لتجاوز الواقع إلى ما هوأبعد منه، و إلا لما استحق أن يطلق عليه صفة الإبداع .. و الإبداع الحر المتحرر بصفة أخص.
الإبداع يتعارض مع كل قيد مادي أو معنوي، و مع كل نص مؤسساتي هدفه الإبقاء على ما هو موجود. الإبداع فكر خلاق، و هج أخّاذ، صيرورة متجددة، عملية تجاوز عملية بناء جديدة ومتجددة، قد تكون خطوته الأولى الهدم لإنشاء الجديد محل ما هدم و يهدم، و قد يكون إنشاء جديداً ... ديدن الإبداع التطوير.. التحسين.. تيسير الحياة الإنسانية.
إذا كان هذا هو حال الإبداع دوما، فإن المبدع الحقيقي، المبدع الحر ديدنه دوما و عبر كل المراحل التاريخية في كل بقاع المعمورة، التحرر من القيود و الانطلاق في الفضاءات الكونية الفسيحة،مغردا لإسعاد البشرية أولا و ملبيا نداء داخليا و مفجرا طاقات متميزة و هبه الله إياها وخصه بها، محققا للبشرية بعضا من سعادتها ... المبدع هذا الإنسان المنفرد.. نفسه تواقة إلى الانفلات مما ألفته و تألفه الأنساق القائمة في المجتمع و خضع لها الناس راضين.. روحه تسبح في عوالم أخرى غير عوالم غيره، تتعارض مع النمطية السائدة، مع الخضوع و الإخضاع ترفض قبول ما هو كائن والإبقاء عليه.
المبدع بطبيعته الدنياميكية الثائرة على الرداءة و الواقع المتردي، يضيق بكل ما يحاصر عقله، ويقيد حركته، يضيق بقيود المؤسسة أيا كانت المؤسسة حتى و لو كانت مؤسسة الأهل و العشيرة والأسرة،يربد أن يقول ما يؤمن به بصرف النظر عما يراه غيره و يفكر فيه أو يشعر به أو يؤثره عن غيره .. يريد أن يبدع بفكره، بيده يريد دوما تتجاوز الواقع وصولا إلى فكر جديد يشع على الإنسانية، يفتح أمامها آفاقا أفضل و أجمل، يتوق و يعمل دوما من اجل تقديم منتوج جديد.. اختراع حديث يقيد به الغير بغض النظر عن الزمان و المكان و الجنس و الأمة.
المبدع في رؤاه و في فكره دوما يشكل شوكة مؤلمة في حلق المؤسسة و أهل الحل و الربط و حتى لدى الأفراد و لو كانوا من أولي القربى، تحركه، ديناميكيته و آراؤه ، فلسفته هي قلب للأوضاع الكائنة، هز للطاولة و ما عليها ... المبدع الحر المتحرر الذي ينشد الفضاءات الشاسعة و بعمل على تجسيد الحرية فيما يبدعه.
الإبداع الحقيقي إيجاد لعوالم جديدة بدلا لما هو كائن، البديل يناقض الواقع بكل ما فيه من مفارقات و تناقضات و ترسيخ لنمطية عادة تُبقي على الرداءة ... الإبداع الصادق ذاته ثورة حرة ..ثورة تحريرية، و المبدع الحر صانع هذه الثورة التي يراها من ألفوا الرداءة،من وجدوا مصالحهم فيها و في الإبقاء عليها مسّا بمكانتهم تهديدا لوجودهم، خطرا على مكتسباتهم
في كل مراحل التاريخ الإنساني، سيما في عالمنا العربي و الإسلامي بصفة أخص .. العقل المبدع المتجدد والمجدد مستهدف لإسكان صوته بشتى الطرق و الأساليب، بالحجر.. بالنفي .. بالإغراء، بالقتل بـ ... إلخ.
ما لنا نتكلم عن الإبداع الحر و المبدع المجدد و المتجدد و الذي يقلق أصحاب المصالح و يخلخل الواقع، و لم نتكلم عن الحرية ؟، هل يمكن أن يكون إبداع إذا انتفت الحرية ؟، هل يمكن للمبدع أن يبدع في بيئة مقيدة و مغلولة ؟، أليس المبدع جزءا من الكل ؟، أليس عضوا من مجتمع يؤثر في المبدع و يوفر له المناخ المناسب للإبداع ؟، ماذا لو كان المجتمع يخلو من الحرية، بل يعاديها و يحاربها ؟ هل يبرز منه مبدعون ؟.
ألا ترى معي أيها القارئ الكريم أن الإبداع باعتباره تجديدا،و إيجادا لما هو غير موجود و تجاوزا للمألوف يأتي إلا ممن تحرر مما ألفه غيره واستسلموا له طائعين راضين أو خاضعين شعارهم ؟ ليس في الإمكان أبعد مما كان .. الإبداع صنو الحرية و الحرية هي الشرط الأساسي لوجود الإبداع، و لكن ما الحرية ؟.
يرى العديد من المفكرين، أن الحرية مفهوم مطلق لا وجود له إلا في الذهن، أما في الواقع لا توجد حريات و ما وجد منها فهو نسبي، لأن نقيضها (الحتمية) مرافقة لها دوما .. و لكن يوجد تحرر و التحرر يصنعه العظماء و العباقرة و الموهوبون و المبدعون " فالحرية ظاهرة، أو واقعـة أو حالة " 1و هي بهذا تشترك مع الإبداع في كونها فعلا ينتقل من الإمكانية إلى الوجود بفعل التحرر الذي يقوم به الإنسان، و إذا كان الإبداع فعلا للتحرر و تجاوزا للواقع و قفزا على المألوف يعبر عن نفسه من خلال الصراع المعقد بين المبدع و ذاته و مجتمعه فهّذا هو جوهر الحرية.
ْ