منذ بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم الدعوة إلى سبيل الله وهو يواجه الكثير من أسئلة المؤمنين الذين يسعون لنيل رضاء الله. هذه التساؤلات، على الرغم من بساطة بعضها، مثلت قضايا مهمة في حياة المسلمين، بعضها تعلق بعباداته وبعضها تعلق بالحياة والممارسات اليومية للمسلمين في حياتهم العادية حتى في علاقات بعضهم ببعض، والبعض الآخر يتعلق مباشرة بعلاقة العبد بربه، وفي هذه الحلقات سوف ننظر في عدد من القضايا التي فصل فيها الرسول، صلى الله عليه وسلم، في حياته الكريمة.
الغيبة في اللغة: من الغيب وهو كل ما غاب عنك، وسميت الغيبة بذلك لغياب المذكور حين ذكره الآخرون، وقال ابن منظور الغيبة من الاغتياب.. أن يتكلم خلف إنسان مستور بسوء.
والغيبة فسرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: “ذكرك أخاك بما يكره” مما يتصف به من العيوب الخِلْقِية أو الخُلُقِية فهذه هي الغيبة أن تذكر أخاك بما يكره في غيبته، ولهذا قيل لها غيبة، وأما إذا ذكرته بما يكره في مقابلته فإنه يسمى سبا وشتما، وهذا إذا كان المذكور متصفا بما قلت فيه. أما إذا كان غير متصف فإنه يكون بهتانا أي كذبا.
ولهذا سئل الرسول صلى الله عليه وسلم أرأيت إن كان في أخي ما أقول قال “إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وان لم يكن فيه ما تقول فقد بهته”.
وقال صلى الله عليه وسلم: “أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم”، قال: “ذكرك أخاك بما يكره” قيل: أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: “إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه ماتقول فقد بهته” ذكره مسلم.
وللإمام أحمد ومالك أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما الغيبة؟ فقال: أن تذكر من المرء ما يكره أن يسمع. فقال: يارسول الله وإن كان حقا؟ فقال: “إذا قلت باطلا فذلك البهتان”.
وفي حديث الترمذي أيضا أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن أكثر ما يدخل الناس النار فقال: “الغم والفرح”. وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ان العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها في النار أبعد مما بين المشرق” وفي رواية له “يهوى بها في نار جهنم”.
وحذر النبي صلى الله عليه وسلم من آفات اللسان عموما، فعن سهل بن سعد ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: “من يضمن لي مابين لحييه ومابين رجليه أضمن له الجنة” قال ابن حجر: الضمان بمعنى الوفاء بترك المعصية. فالمعنى: من أدى الحق الذي على لسانه من النطق بما يجب عليه او الصمت عما لا يعنيه.
وقال الداودي: المراد بما بين اللحيين الفم، قال: فيتناول الأقوال والأكل والشرب وسائر ما يتأتى بالفم من الفعل. وقال ابن بطال: إن الحديث يدل على أن أعظم البلاء على المرء في الدنيا لسانه وفرجه، فمن وقى شرهما وقي أعظم الشر.
وفي حديث معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: “ألا أخبرك بملاك ذلك كله، قلت: بلى يانبي الله، فأخذ بلسانه، قال: كف عليك هذا، فقلت: يانبي الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم”.
وقال صلى الله عليه وسلم: “إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان فتقول: اتق الله فينا، فإنما نحن بك، فإن استقمت استقمنا وإن اعوججت اعوججنا”. وقال الغزالي مبينا معنى الحديث: إن نطق اللسان يؤثر في أعضاء الإنسان بالتوفيق والخذلان، فاللسان أشد الأعضاء جماحا وطغيانا، وأكثرها فسادا أو عدوانا.
وذكر النبي أن الغيبة إنما تقع فيما يكرهه الإنسان ويؤذيه فقال: “بما يكره” وقال الحسن: الخيبة ثلاثة أوجه كلها في كتاب الله: الغيبة والإفك والبهتان. فأما الغيبة فهو أن تقول في أخيك ما هو فيه، وأما الإفك فأن تقول فيه ما بلغك عنه،وأما البهتان فأن تقول فيه ماليس فيه.
وقد حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الغيبة والبهتان حرام وذلك في قوله: “فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا”.
قال ابن المنذر: قد حرم النبي الغيبة مودعا بذلك أمته، وقرن تحريمها إلى تحريم الدماء والأموال ثم زاد تحريم ذلك تأكيداً بإعلامه أن تحريم ذلك كحرمة البلد الحرام والشهر الحرام.
وأشار القرآن الكريم إلى تحريم الغيبة والبهتان في مواضع كثيرة منها قوله تعالى: “ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم”. قال ابن عباس: حرم الله أن يغتاب المؤمن بشيء كما حرم الميتة، وقال القاضي أبو يعلي عن تمثيل الغيبة بأكل الميت. وهذا تأكيد لتحريم الغيبة، لأن أكل لحم المسلم محظور ولأن النفوس تعافه من طريق الطبع فينبغي ان تكون الغيبة بمنزلته في الكراهة.
وقال تعالى: “ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان” (الحجرات 11)