ابن الخليل عضو برونزي
عدد المساهمات : 460 نقاط : 5729 تاريخ التسجيل : 01/12/2010 المزاج : دائما رايق
| موضوع: برد شديد وقارس الأحد 20 فبراير 2011, 9:18 pm | |
| برد شديد.. برد قارس .. قاس.. يهاجم بلا هوادة.. كطفل صغير يشدك، يربت على ساقك، يرفع صوته وعينيه ويثغو ليلفت نظرك إليه. قطرات الماء التي تنقر نافذتي.. وجدران بيتي.. وأطلال الياسمينة في شرفتي. بدت لي ليلا.. مثل متسول يلاحقك يريد أن يشرح لك حاله.. وأنت منشغل عنه. النار التي تزمجر في مدفأتي تحاول إقناع البرد بالبقاء على عتبة الباب وطيات الستائر. وهذا العصفور الصغير القابع في قفصه يتأملني.. تقول لي عيناه شيئا لا وقت لدي لأسمعه. ولكن..لا فائدة... برد شديد. لا تستطيع أن تتجاهله وتتابع حياتك دون أن تلتفت إليه. برد شديد لا حيلة معه إلا أن تفتح له ذراعيك.. وصدرك.. وقلبك. وتستسلم لمجونه ونزواته.
وراء زجاج باب الشرفة وقفت لا أرى شيئا البرد يخترق الزجاج ويصل إلى عظامي والظلام خارج البيت بساط أسود طويل صوت البرد يعلو على نبضات قلبي ويأخذني بعيدا.
لماذا أعود إلى الطفولة دائما وهي لم تكن تلك الطفولة الهانئة الخالية؟ لماذا وقد كانت مبتسرة مقيدة؟ ليس فقط لأنني كنت فيها طفلة. ولكن.. لأن من أحبهم.. كانوا إما أطفالا مثلي.. أو شبابا وصبايا.. مثلي.. حتى العجائز.. كانوا مثلي.. تسكنهم طفولة. أو ربما.. لأن عيوني.. عيون الطفلة.. كانت.. مثلي.. تنتقي وتصطفي.. وترى الجمال في غير مواقعه. وإلا.. لماذا أهرب من شوارع صقيلة يجعلها المطر مرايا سوداء إلى حارات ضيقة متشابكة تملؤها حفر الطين. ومن بيت حجري دافيء يذكرني بتلك الأبيات التي حفظناها في المدرسة: سقف بيتي حديد.. ركن بيتي حجر فاعصفي يا رياح.. وانتحب يا شجر إلى بيت صغير في حارة "سد" تقاتل مدفأة الحطب فيه البرد كـ "دون كيشوت" مجنون يقاتل طواحين الهواء. ولماذا أترك ترف ثلاجتي ولا يغريني في هذا الجوع، جوع وحشي بالمناسبة، إلا عروسة زيت وزعتر بخبز تنور تتنهد على ظهر مدفأة؟ وعطر ثيابي الذي كان يملأ الغرفة قبل قليل ويجعل صغيري كلما اقترب من طاولتي يهوي علي ليشمني لماذا أجد الآن.. أن رائحة صابون مغسلة صغيرة كانت تقف تحت السماء يملأ حواسي كلها. ورغم بساطة الرائحة وتوغلها في القدم.. تتفوق على عطري الباريسي المدروس التأثير؟
للروائح عندي دائما أهمية خاصة. وروائح الشتاء هي الأجمل. رائحة زخة المطر الأولى المختصرة كمزحة.. تختلف عن رائحة حبال المطر المسترسلة كنجوى.. تختلف عن رائحة ملحمة مطر تذكر طين البيوت بالطوفان العظيم. رائحة احتراق الخشب مع رائحة ماء السماء تترك فسحة لرائحة السمراء المدللة تتمتم في دلالها فوق الجمر قبل أن تنداح في فناجين الخزف.. والليلك المتذمر من طول جلوسه في كأس ماء شفاف.. "يكبو" بين الحين والحين غافيا ليصحو على منافسة ماء الزهر في كأس الماء المجاور.. ويصبح الفضاء أوركسترا تعزف العطور. رائحة الدفء الممتزج بالبساطة.. رائحة الهدوء.. رائحة الساعات والأيام الطويلة.. الهانئة.. مع رائحة البذر الأسود المنذور لسهرة الفيلم العربي القديم يوم الجمعة يدوخ في المقلاة وتحتج بعض حباته قافزة في الهواء. ويغلبني النعاس قبل انتهاء الفيلم وأضع رأسي في حضن جدتي وأغفو.
بكسل فتحت الباب..وخرجت إلى الشرفة إما أن البرد قد انسحب.. أو أنني ببساطة.. لم أعد أشعر به. مثلي .. فوجيء الفجر المتسلل على مهل... حين رأى الشام نائمة تحت الثلج.. كعروس غفت على الكرسي بثوبها الأبيض الطويل. تركت العاشقين وعلى مهل توجهت إلى سريري.. لديهما حديث طويل.. ولي موعد مع أحلام طويلة.
شكرا.. __________________
| |
|
شهد الحياة مشرفة الترفية والتسلية
عدد المساهمات : 1335 نقاط : 6655 تاريخ التسجيل : 23/01/2011 الموقع : غزة المزاج : يـآرب أموت وأتـريـح
| موضوع: رد: برد شديد وقارس الإثنين 21 فبراير 2011, 12:30 am | |
| كالعادة ابداع رائع
وطرح يستحق المتابعة
شكراً لك
بانتظار الجديد القادم دمت بكل خير | |
|