أولاً- لعلماء اللغة والنحو في قول المؤذن : ( الله أَكْبَرُ ) ثلاثة أقوال :
الأول : أنَّ معناه : الله كبيرٌ ، فوضع ( أَفْعَلُ ) موضع ( فعيل ) .
الثاني : أن معناه : الله أَكْبَرُ كَبيرٍ ؛ كقولنا : فلان أعز عزيز .
الثالث : أن معناه : الله أَكْبَرُ من كلِّ شيء ؛ كما تقول : زيد أفضل ، وأنت تريد : أفضل من غيره ، فحُذِف ( من ) والمفضل عليه ؛ لوضوح المعنى .
فعلى القول الأول يكون ( أكبر ) صفة مشبهة باسم الفاعل . وعلى القولين الثاني والثالث يكون ( أَكْبَرُ ) اسم تفضيل ، وزنه ( أَفْعَلً ) ، ومؤنثه ( كُبْرَى ) على وزن ( فُعْلَى ) .
وأرجح هذه الأقوال – والله أعلم - القول الثالث ، وإليه ذهب سيبويه ، قال :« حذف ( من كل شيء ) استخفافًا ؛ كما تقول : أنت أفضل ، ولا تقول : من أحد . وكما تقول : لا مالَ ، ولا تقول : لك ، وما يشبهه ، ومثل هذا كثيرٌ » .
وقال الزركشي في البرهان :« كما تقول في الصلاة : ( الله أكبر ) ، ومعناه : من كل شيء ؛ ولكن لا تقول هذا المقدَّر ؛ ليكون اللفظ في اللسان مطابقًا لمقصود الجنان ، وهو أن يكون في القلب ذكر الله وحده » .
ثانيًا- إذا ثبت أن ( أكبر ) في قولنا : ( الله أكبر ) اسم تفضيل ، فاعلم أن اسم التفضيل يستعمل في اللغة على ثلاثة أوجه : أحدها : أن يكون نكرة . والثاني : أن يكون معرفًا بالألف واللام . والثالث : أن يكون معرفًا بالإضافة ، ولكل وجه من هذه الأوجه أحكامه الخاصة به . ويهمنا هنا من هذه الأقسام القسم الأول والثاني :
القسم الأول : أن يكون نكرة ؛ كقولنا : ( أكبر ، وأعز ، وأعلى ، وأسفل ) ، وله حكمان :
أحدهما : وجوب دخول ( من ) جارة للمفضل عليه ؛ كما في قوله تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ ﴾(غافر: 10) .
وقد تحذف ( من ) مع المفضل عليه لوضوح المعنى ؛ كما في قوله تعالى :﴿ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا ﴾ (النساء: 135) . أي : أولى بهما من سائر الناس . وقوله تعالى :﴿ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ﴾(التوبة: 72) . أي : أكبر مما ذكر ، وقوله تعالى :﴿ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴾(الأعلى: 17) . أي : خير من الدنيا وأبقى منها .
وقد اجتمع الحذف والإثبات في قوله تعالى: ﴿ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَرًا ﴾(الكهف: 34) . أي : أعز نفرًا منك . والحذف هنا أبلغ من الذكر ، وعليه يحمل قولنا : ( الله أكبر ) .
والحكم الآخر : وجوب إفراده وتذكيره في جميع حالاته ؛ كقوله تعالى :﴿ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ ﴾(التوبة:62) . أي : أحق بالإرضاء من غيره . وأفرد الضمير في قوله : ( أن يرضوه ) ؛ لأنهما في حكم مرضي واحد ؛ إذ رضا الله تعالى هو رضا الرسول صلى الله عليه وسلم . وقوله تعالى :﴿ قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ ﴾ إلى قوله :﴿ أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾(التوبة: 24) .
القسم الثاني : أن يكون معرفًا بالألف واللام ؛ كقولنا : ( الأكبر ، والأعلى ) ، وله حكمان :
أحدهما : أن يكون مطابقًا للمفضل ؛ نحو : قوله تعالى :﴿ وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ ﴾(النحل: 60) ، ﴿ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ﴾(الأعلى : 1) ، ﴿ لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَ ﴾(هود: 22) .
والحكم الآخر : عدم ذكر ( من ) بعده مع المفضل عليه ؛ لأن المفضل عليه لا يجوز ذكره هنا ؛ إذ تغني عنه ( أل ) ؛ لأنها للعهد ، وليست موصولة كالداخلة على اسم الفاعل ، واسم المفعول . و( أل ) العهدية تشير إلى شيء معين تقدم ذكره لفظًا أو حكمًا ، وتعيينه يشعر بالمفضول ؛ ولهذا قالوا : لا تكون ( أل ) في ( أفعل التفضيل ) إلا للعهد ؛ لئلا يعرَى عن المفضول ؛ ولذلك لا يجوز أن يقال : زيد الأفضل من عمرو ، وأنت الأعلم منهم ، وهم الأخسرون من غيرهم ، خلافًا لقولك : زيد أفضل من عمرو ، وأنت أعلم منه ، وهم أخسر من غيرهم . وأما قول الأعشى :
ولست بالأكثر منهم حصى ... إنما العزة للكاثر
فمؤول عندهم بتأويلات مختلفة ؛ منها : زيادة ( أل ) في لفظ ( الأكثر ) . ومنها : أن الجار والمجرور متعلق بكلمة محذوفة تماثل المذكورة ، والتقدير : بالأكثر أكثر منهم . ومنها : أن ( من ) بمعنى ( في ) . أي : بالأكثر فيهم . ومنها : أن ( من ) للتبيين ، وليست لابتداء الغاية ؛ كأنه قال : ولست بالأكثر من بينهم .
وكل هذه التأويلات متكلفة لا يعرف عنها الشاعر شيئًا ، فهي إما لغة ، وإما شاذة . وقد أجاز أبو عمرو الجرمي الجمع بين ( أل ) ، و( من ) , مستدلاً بهذا البيت .
ثالثًا- بقي أن تعلم أن الفرق بين قول : ( الله أكبر ) ، وقول ( الله الأكبر ) من وجهين :
أحدهما : أنك إذا قلت : ( الله أكبر ) فإنك تريد الإخبار عن لفظ الجلالة ( الله ) بهذه الصفة ( أكبر ) لا غير . فإذا قلت : ( الله الأكبر ) ، احتمل أن يكون ( الأكبر ) خبرًا عن لفظ الجلالة ، واحتمل أن يكون صفة له . واحتمال الوصفية فيه أقوى من احتمال الخبرية ؛ ولهذا كان الأول أبلغ في التعبير عن المراد من الثاني .
والوجه الآخر : أن قولنا : ( الله ) يفيد إثبات وجود الله عز وجل ، وقولنا : ( أكبر ) يفيد نَفْيَ أن يكون لله سبحانه وتعالى شريك ؛ لأن الشريك لا يكون أكبر من الشريك الآخر فيما فيه الاشتراك . فتضمنت الجملة على هذا أمرين : الأول : إثباتُ الألوهية ، والثاني : نَفْيُ الشريك . وهذا الأمر الثاني لا يوجد في قول : ( الله الأكبر ) ؛ لأن لفظ ( الأكبر ) يفهم منه أن هناك إله آخر اسمه ( الله ) ؛ ولكنه أصغر من الأول ، فيكون هناك إلهان اسمهما ( الله ) : الله الأكبر ، والله الأصغر ، وهذا شرك والعياذ بالله . ويبين لك ذلك أن قولك : ( زيد الأكبر ) يقتضي بالضرورة وجود زيد آخر ؛ ولكنه أصغر من الأول . ومن ذلك ما روي أنه كان لخالد بن الزبير أولاد ، وفيهم ( محمد الأكبر ) ، و ( محمد الأصغر ) ..
فثبت بذلك أن قول ( الله الأكبر ) يتضمن إثباتًا لوجود الله مع احتمال وجود الشريك ، وأن قول ( الله أكبر ) يتضمن إثباتًا لوجود الله مع نفْيِ الشريك . وبهذا يظهر لنا السر في اختيار قولنا : ( الله أكبر ) في الأذان وفي الصلاة ، دون قولنا : ( الله الأكبر ) . فتأمل !
وأما قول المكبر في العيدين :( الله أكبر كبيرًا ) امتثالاً لأمر الله عز وجل :﴿ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ ﴾(البقرة: 185) فانتصب فيه ( كبيرًا ) على إضمار الفعل ؛ كأنه قال : أُكَبِّرُ الله تَكْبِيرًا ، فقوله : ( كَبيرًا ) بمعنى : ( تَكْبِيرًا ) ، وهو من وضع الاسمَ موضعَ المَصْدَرِ الحقيقي .. والله تعالى أعلم !