لم تصدق السبعينية اللاجئة من قطاع غزة نجية هلوسي محمد "شراب" أن تعثر على أفراد عائلتها بعد 35 عاما، من التشرد والتشتت، وقد ابيضت عيونها وهي تنتظر إجابة لرسائلها التي انقطعت في السبعينات، وقد شتتهم الحروب التي عايشوها وقطعت حبال التواصل بينهم.
"شراب" التي عاشت طفولتها في مدينة لارنكا القبرصية، قد تزوجت مطلع عام 1948من فلسطيني في الأربعينات من عمره من سكان يافا، وسافرت مع زوجها للعيش في مكان إقامته، إلا أن الحرب لم تمهلها كثيرا، لتتعرف على معالم المدينة الجديدة، أو لتلتقط أنفاسها بعيدا عن واجبات زوجة أبيها البيتية، حتى هاجمت العصابات الإسرائيلية المدن الفلسطينية ومنها يافا، ففرت تحت أصوات المدافع مع عائلة زوجها بحثا عن مدينة آمنه ترتمي على ضفافها أجسادهم المنهكة.
تقبض العجوز بيدها على عكاز في بيتها بخان يونس جنوب قطاع غزة، وتسترجع ذاكرة هرمة تحتفظ بصور مؤلمة للماضي قائلة " لم يمضي على إقامتي في فلسطين 4 أشهر حتى استقبلتني حرب الثمان والأربعين بشراستها، لقد كانت أشرس من زوجة أبي التي عاملتني كخادمة،وزوجتني طفلة لرجل يكبرني بربع قرن وكأن الأقدار أسندتني إلى جدار أكثر قساوة".
تنهدت بإيقاع حزين :" كنت عروسا، أتعرف على مدينة يافا وهواءها، وأتعلم لغة أهلها، حتى عاجلتنا الحرب، فهربنا من المنزل بملابسنا هناك، تركت صيغتي وجهازي، وكل ما املك من جواز سفري القبرصي وبطاقتي وشهادة ميلادي كلها تركتها هناك وفررنا لننجو بأنفسنا من ترهيب العصابات الإسرائيلية".
الهجرة من يافا
لم يكن يدور في مخيلة العجوز نجيه وكل من فروا، أن الحرب ستطول وان مفتاح البيت سيحل محل البيت نفسه، وان ما يملكونه سيصبح صورة من ذكريات جميله، ستغلق عليه صفحات ذاكرتهم وينحبوا كلما افتتحوها خلسة، وتضيف:" بداية لم نكن نعلم أن الحرب ستطول هكذا، قلنا يومين وسنعود إلى (يافا) ولكن السنين مرت وتمر وذاكرتنا لا ترحمنا"، تملأ حدقات عيونها دموع تبدو كحبات بلور مكسور، لتكمل سرد وجع صبغ ذاكرتها وآلاف المهجرين من مدنهم وقراهم الآمنة:" هاجرنا وأسرة زوجي من مدينة يافا ثم أقمنا ب(صرفند ) يومين حتى طاردتنا العصابات الإسرائيلية، فلجأنا لمدينة (اللد)، فلاحقتنا ومنها هربنا للقدس ومنها إلى غزة سيرا على الإقدام تحت الشمس الحارقة،وتضيف:" بقيت العصابات الإسرائيلية تلاحقنا في كل مدينة ندخلها، كثيرا من الناس ماتوا بالعراء وتألموا من الجوع وبكوا بكاء الرضع، كنت مصدومة أول مرة في عمري أرى هذه المشاهد، النساء والأطفال والشيوخ كانوا يسيرون على الأقدام مسافات طويلة، ". "صورهم لم تمحَ من الذاكرة، بعض النساء تركن أطفالهن وهربن، أفظع ما رأيت بأم عيني نساء يروين ظمأ أطفالهن ببول إخوتهم الصغار للتغلب على العطش الذي كان يقطع أمعدتهم أيام طوال".
تواصل الحديث :" وصلنا (غزة) وأقمنا ببيت صديق لزوجي، فيما أقامت أسرته بعيدا عنا في الخيام التي أعطتها لهم وكالة الغوث وقتها، كنا نملك بعض المال، استأجرنا بيتا وأقمنا فيه برفح جنوب القطاع.
وتقول :" عشت أياما قاسية لقد طلقني زوجي ولم أجد أحدا ألجأ إليه حيث لا أقارب لي ولا أهل هنا، وأخذني ابن زوجي لأعيش مع أسرته ولكن حرب 67 على قطاع غزة، قتلته، وتروي " في بداية احتلاله لقطاع غزة، طالب الجيش الإسرائيلي عبر مكبرات الصوت بخروج الشباب والرجال إلى ساحات المدارس، فذهب ابن زوجي إلى المدرسة وهناك على الباب صوبوا أسلحتهم إليه وقتلوه بعد ثلاثة أيام من البحث عنه وجدنا جثته على تلة مرتفعة غارقا بدمائه، "لقد تألمت كثيرا وفقدت مصدر حمايتي ". تردف بالقول " بعدها ازدادت الحياة اسودادا في عيني، فقد فقدت الجدار الذي كنت استند إليه واحتمي من ظلم وقسوة والده ".
كانت (نجية ) تتواصل مع أهلها في قبرص عبر الاتصالات والرسائل البريدية، وزارتهم فترة إقامتها بفلسطين " في قطاع غزة"، مرة واحدة في مطلع السبعينات لمدة عشرين يوما هي وطفلها، وحصلت نجية على نصيبها من ميراث والدتها التي توفيت بعد ولادتها بأيام، و يقدر ب 5 دونمات اتفقت مع أحد إخوتها أن يقوم بزراعتها وإرسال كل عام مبلغ مالي لها بعد جني كل محصول.
وبالفعل التزم إخوتها بالاتفاق وأرسلوا لها المبلغ عبر بنك "الاومي" في غزة ولمدة أربع سنوات متتالية، وفي آخر رسالة وصلتها "بأن الوضع في قبرص لا يطمئن فنحن على أبواب حرب" حتى انقطعت أخبارهم بعدها، ولم يكن جدوى لرسائلها، فلا رد يصلها ولا خبر يروي ظمأها ويهدئ قلقها عليهم، مشيرة أنها كانت أحوج إليهم من أي وقت آخر، خاصة بعد أن قتلت حرب 1967 ابن زوجها الذي كان أكثر رأفة بها ورحمة من والدها القاسي والذي أذاقها صنوف العذاب.
وتشير أنها لجأت إلى جارة لها وكانت قبرصية الأصل وطلبت منها أن تكتب رسالة لأهلها تشرح لهم وضعها ومعاناتها بغزة، إلا انه بعد أيام جاءها الرد برسالة:" اتركي الولد عندهم وتعالي هنا إلى قبرص" تقول:" فعندما تسلمت الرد حزنت كثيرا، وكنت بين نارين أخشى أن أترك ولدي يعيش عند زوجة أب ويعاني ما عانيته، ولم أمتلك مصاريف السفر وقتها، بعدها تزوجت من رجل آخر تقدم لخطبتي، لأبقى قريبة من ابني، وأنجبت 5 بنات وولد أعيش بينهم الآن.
لقاء بعد فراق طويل
عن كيفية عثورها على أسرتها تشرح قائلة:" في عام 2004 قال صهري "زوج ابنتي" -الذي يقيم في قطر ويتجول في عدة دول-، مازحا سوف آتي لك بأخبار عن أهلك، لم اصدق واعتقدت انه يمازحني "وهو يعرف لهفتي لمعرفة أي أخبار عنهم.
وتضيف بعدها " أخذ مني صوراً عن وثيقة سفري وبعض الأوراق وعناوين إخوتي بقبرص، ووكل محامي هناك للبحث عنهم، كما أعطى العناوين لابنة صديقه التي سافرت إلى بريطانيا للدراسة، وهناك عثرت على الأسماء ومحل إقامتهم واتصلت بهم، بداية لم يصدقوا ظنوا أنها قد رأت الإعلان الذي نشروه في إحدى الصحف هناك للبحث عني، ولكنها أكدت لهم أنها جاءت بطلب مني " أختهم" وأعطتهم أرقام تلفوناتنا، فاتصلنا بهم وتحدثنا، معهم لم يصدقوا في البداية التقيتهم على الانترنت في مايو من العام الماضي، وتحدثت إليهم وقد صبغ الزمن وجوههم بالبياض تضيف :" عرفت أن احتلال تركيا لقبرص عام 1974، شردهم كما شردتني هنا حرب ال 48 واحتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية وتشتتوا، ونزحوا من جنوب قبرص الذي سيطرت عليه تركيا إلى شمالها، وتتابع" نزفنا دموعا وذكريات رأيت صورهم واسترجعنا بعض ذكرياتنا وكلها مليئة بأحداث صعبة وحروب.
وتستعد الحاجة نجية للسفر إلى قبرص التي غادرتها طفلة تقول :" طلبوا مني أن أرسل أوراقي للسفر إلى هناك وأنا انتظر وصول الفيزا كي أطير إليهم اعد الدقائق التي تجمعني بهم، بعد كل هذا المشوار من المعاناة.
وتتوقع الحاجة أن تجد معيقات في السفر إلى هناك خاصة مع إغلاق المعابر، وتضيف بان حلمها الآن رؤية قبرص واخذ الجنسية التي حرمتها منها الحرب بعد 78 عاما من اجل أن تستطع أن تسافر للسعودية لأداء فريضة الحج وقد منعت في غزة بسبب الحصار وإغلاق المعابر من ناحية وحصار الأخوة الأعداء من ناحية أخرى.
تمسك بورقة مصورة لشهادة ميلاد لها، وصلتها للتو من مدينة لارنكا مسقط رأسها تقول :" بعد 61 عاما احصل على شهادة ميلاد، أوراقي لازالت في يافا، ليتني أعود إليها مرة، واجد صيغتي، وتنساب ضحكاتها بهدوء "كل الأيام السابقة عشتها بمرارة ومعاناة، عل عمري يتجدد مع هذه الرحلة ". أو أخلد إلى الراحة هناك بعيدا عن ضجيج غزة وصخبها !.